قصة حقيقية مؤلمة جدا |
قصة حقيقية مؤلمة جدا
يروى احد اللواءات المسئولين فى القوات المسلحة أنه حينما كان رئيسا لإدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية جاءته ذات مرة سيدة فاضلة تريد أن تحظى برعاية بعض أسر شهداء الحرب مع إسرائيل التي عرفت بحرب أكتوبر 73م فرحب سيادة اللواء وكفلت تلك المرأة قرابة مائتي أسرة كفالات مالية وعلاج وزواج وحج.. إلخ... وكانت تعطي عطاء من لا يخشى الفقر حتى لكأنها حاتمية النسب ثم وصل عدد الأسر التي كانت تدعمها إلى ألف أسرة ولما عُرض عليها تحضر حفلا لتنال تكريما من الدولة رفضت وقالت" هكدا سيضيع الاجر والثواب".
يقول اللواء مرت سبع سنوات وانقطعت عني أخبارها وذات يوم وبعد خمسة عشر عاما من تركي لمنصبى تلقيت اتصالا من إحدى مديرات دور المسنين وفاجأتني أن هناك عجوزا تريد الحديث معي فعرفت أن الصوت ليس غريبا فذكرتني أنها" أم الشهداء" وكنتُ أطلق عليها هذا اللقب وتذكرتُ أول لقائي بها قبل اثنين وعشرين سنة وعرفت أنها بدار المسنين منذ خمس سنوات، فزرتها وجلست معها وسألتها عن أولادها فأخبرتني بولدها الطبيب العالمي المقيم في أمريكا وولدها الثاني الذي أصبح ثريا مشهورا في دبي وابنتها المتزوجة المقيمة في القاهرة...
تطرق الى خيالي مدى الثراء الذي هم فيه ولمحت بين عيني العجوز كبر السن وضعف البصر وهشاشة السمع ورقة العظم ووحشتها وقربها من عتبة الموت وبعد فلذات أكبادها عنها والعصا التي لا تقدر أن تمشي خطوة واحدة إلا بها..
لقد أصبحت ضعيفة نحيفة متعبة مهدودة ليس كما عهدتها قبل عشرين عاما تطوف مصر بأكملها بحثا عن أرملة تشتري لها الطعام وتؤنس وحشتها...
واثناء حديثى معها اخبرتنى انه كان آخر عهدها بولديها قبل عشر سنوات..فقمت بالاتصال بهما ودعوتهما لزيارة أمهما فأجابني الطبيب المقيم في أمريكا:
*"إن أمنا ثرية ولديها من المال ما يكفيها للعيش في دار المسنين دون مشاكل"*
فقلت له ألا تشتاق لأمك...؟ فتعذر بانشغاله رغم أنه يزور مصر كل عام..
وسمعت نفس الكلام من ولدها المقيم في دبي..
وكذلك تعللت البنت بأولادها وكثرة مشاغلها..
فبقيتُ ثلاثة أشهر أزورها في كل أسبوع واستمع لحديثها العذب المصفى في كل زيارة وحكاياتها مع أولادها..وفي كل زيارة تخرج لي ملف ذكريات عبارة عن صور و (ألبومات) لأولادها وهي فرحة مسرورة بنجاحهم وتفوقهم وتخبرني عن بذلها الغالي والنفيس في دراسة ولدها الطبيب..وأكبر متعة لها الحديث عن أولادها...
وذات يوم حدثتني برغبتها العارمة بزيارة أولادها لتفرح بهم وبأحفادها.. وتكحل نظرها برؤيتهم قبل وداع هذه الحياة ومغادرة هذا الكوكب وهي الثرية القادرة على السفر.. فاتصلت بولديها لترتيب أمور سفرها إليهما واستقبالهما لها ومعرفة عنوان كل منهما..فكان الرد واحدا وهو:
" *الأمور هنا صعبة وعندما نزور القاهرة سوف نراها*"
وفي يوم من الأيام الحزينة جاءني اتصال لا أنساه من مديرة دار المسنين تبلغني بوفاة العجوز فذهبت سريعا أجر خطاي وأسحب قدماي سحبا وأكاد أن أتعثر في المشي...
ولما وصلت الدار ورأيت العجوز الوحيدة المسجاة التي توفيت وهي تتمنى أن تنظر نظرة واحدة لأولادها أو يكونوا عند رأسها في لحظة السكرات ولم يلبوا طلبها ولم يردوا حتى على اتصالاتها انهار دمعي ولم أتمالك مشاعري..
وكانت لحظات بلغ بي الهول فيها مبلغه... فاتصلتُ بولديها فكان الرد:
*لا نستطيع الحضور ولا داعي لمشقة السفر من أجل هذا الأمر*
فاتصلت بابنتها فأخبرتني أنها مع أولادها في الإسكندرية للمشاركة في مسابقة رياضية وحضورها صعب.
يخبر اللواء بعد ذلك أنه قام بتجهيز تلك المرأة ودفنها ومشى وحيدا في جنازتها في حين أنها سخرت مالها لتدريس اولادها ليحصلوا على أرقى الشهادات العالمية وكانت هي السبب الرئيس في نجاحهم..
يخبر اللواء أنه ولأول مرة يبكي كالطفل تماما تذكر ببكائه هذا بكاءه يوم ماتت أمه الحنون..
شهادة وفاة القيم والأخلاق
بعد أسبوع من دفن العجوز حضرت البنت لدار المسنين تطالب بشهادة الوفاة ليبدأ حصر الثروة الطائلة لتلك العجوز التي كانت تعول ألف أسرة من أسر شهداء مصر ليبدأ تقسيم التركة..
وبعدها حضر الولدان واستلموا شهادة الوفاة ..
يا لتلك الشهادة...
إنها شهادة وفاة القيم ..
شهادة موت الضمير..
شهادة العقوق الصارخ.. وموت العاطفة...
أحقا يكون هذا....؟